Monday, December 17, 2007

مقتطفات من رواية البحث عن امرأة مفقودة للدكتور عماد زكي

مقتطفات من رواية البحث عن امرأة مفقودة للدكتور عماد زكي
تاريخ النشر 30/12/1998


جمعت بيننا الآمال والذكريات اللطيفة، فتوطدت بيننا صحبة حميمة، نحن مختلفان نعم لكن الود بيننا استطاع أن يطفو فوق كل خلاف

أما أنا فأعتقد أن الجانب المريح في شخصية العم درويش، جانب مركب.. إنه مزيج من الطيبة والبساطة والصراحة الظرافة.. مزيج لطيف قد أضيف إليه ذكاء فطري حاد، صقلته السنون، وزادته تجاربها قدرة على فهم الناس والتقاط إحساساتهم الخفية، ثمة شيء آخر كان يجعل العم درويش أشد إحساسا بالآخرين، إنه المعاناة، فالعم درويش يعاني من عدم الإنجاب، تؤرقه الأبوة الجائعة إلى الأطفال، كانوا يقولون: إن امرأته هي السبب، وهكذا كانوا يقولون دائما عندما كان العقم يضرب أسرة ما!..

الحرمان يبعث في النفس رقة فريده

بإمكانكِ أن تنامي إذا أردتِ-
ليت النوم يريح، لنمت ليل نهار-

ورحت أفكر في هذه الطفلة المسكينة التي كانت والشقاء توأمين في رحم واحد

أنا يا صديقي أحب المعلومات الجاهزة، قصة في رواية، تحقيق في صحيفة، دراسة في مجلة، أمي تقدم لي الفواكه دائما مقشرة، والجامعة لم تكلفنا يوما بإجراء بحث أو دراسة، دائما تطالبنا بحفظ المعلومات
حاول أن تنسى يا صديقي ، فلا شيء في هذه الحياة يهم

وداهمني سؤال..
هل أصبح اهتمامي بأحلام ، واهتمامها بي واضحا إلى الحد الذي جعل هاني يفصح عن غيرته مني..
وأنا أعز أصدقائه وأقربهم إلى نفسه؟..
الأشياء الكبيرة دائما تبدأ بسؤال!..

ـ هاني: أما زلت تفكر في تلك الطفلة؟
ـ صلاح: لغزها يتحدى كل طاقاتي العقلية..
ـ آرسين لوبين في ثياب طبيب!
ـ يقولون : إن آرسين لوبين خرافة لا وجود لها إلا في خيال المؤلف الذي اخترعها..
ابتسم هاني وقال في دعابة:
ـ وأنت خرافة لا تصدق، أريد أن أسألك سؤالا، وأرجو أن تجيبني عنه بصراحة!
ـ أسأل؟
ـ من الذي نصبك مسؤولا عن هذا العالم؟
ـ هل أبدو هكذا حقا؟..

أفي عصر الثروات العربية يوجد من يجوع ويعرى ويضطر لبيع أطفاله من أجل لقمة طعام؟..

ـ قصدت أن أقول بأن موقفك هذا ينسجم تماما مع روح الشباب المتوثبة المشبعة بالفضول ، الشباب المسؤول المتحمس قضية نبيلة..
شبابنا اليوم للأسف مصاب بالإحباط المزمن ، ومن أخطر أعراض هذا المرض اللامبالاة التي ينظر بها شبابنا إلى الأمور والأحداث التي تجري حولنا ، وأنت يا دكتور صلاح ظاهرة صحية مبشرة..
عندما كنت في سنك كنت هكذا مثلك ، تثيرني الأحداث ، وتدفعني للمبادرة ، كنت أحب أن يكون لي موقف من كل حدث مهما كان صغيرا ، وكنت أحب دائما أن أترجم الموقف إلى فعل

وأدركت أنه إنسان ذكي قد عركته التجارب وحدت نظرته للناس

فمجتمعنا لا يخلو من النماذج الخيرة الرفيعة، بل عنيت إنك إذا أردت أن تكون إنسانا نبيلا ، فسوف تبدو غريبا ، سينظر إليك المجتمع وكأنك كائن عجيب قادم من عالم منقرض ، ستكون منبوذا لا يكاد يلتفت إليك أحد ، وستعيش غربة قاتلة
وليت الأمر يقف عند هذا الحد!.. إذن لهان الأمر ، لكن المصيبة أن الناس لن يتركوك في وحدتك تمارس النظافة التي ترتاح إليها ، بل سيلومونك ويثبطونك ويحذرونك من مسلك النبيل ، لأن قدرتك على السمو ستعريهم وتكشف ضعفهم ، سيتهمونك بالسذاجة والمثالية الفارغة..
أنا صرت أكره كلمة الواقع هذه، لقد أصبحت تعني الهزيمة، تعني الاستسلام لهذا لفساد الذي يجتاحنا كالطوفان..
التفكير الواقعي قاموسنا الملوث أصبح يعني الانصياع للواقع المريض، واتخاذه مقياسا للسلوك والتصرف، صار يعني أن تكون كما يريد هذا الواقع لا أن يكون الواقع كما تريد..

ـ صار لي في هذه المهنة أكثر من أربعين عاما ، أربعين عاما وأنا أراقب المجتمع ، وأسجل ملاحظاتي عليه ، كنت ألاحظ بداية الانهيار وأقاومها بقلمي ، عاصرت الانهيارات والهزائم الكبرى التي تعرضت لها الأمة ، فوقفت أعري أسبابها وأحذر من آثارها ، كنت أؤمن أن الحياة موقف ، وكانت مواقفي واضحة صريحة..
ثم ماذا كانت النتيجة؟ حاربتني الدنيا.. حاصرني الجوع.. خنقتني الغربة وذات يوم تقهقرت ، وقعت أسيرا لليأس ، فكسرت سيفي وركعت.. وأجرت قلمي ، وصرت أكتب ما أريد وما لا أريد ، وأصفق للجميع

كان في كلام الأستاذ سعيد نوع من البوح.. شيء من كالاعتراف ، وتأملت الشيب الذي توج رأسه ، فأدركت أن تحت كل شعرة بيضاء قصة حزينة ، أو تجربة مريرة ، وشعرت بالرثاء لرجل يروي قصة سقوطه أمام التحديات..
"هل يمكن أن تكون هذه نهاية المخلصين؟!"..

ما أردت قوله أن أطفالنا اليوم يدمرون بألف طريقة ، وهذه الطفلة ليست أسوأهم حظا..
ماذا تقول في أطفال تزهق أرواحهم في الأرحام بعمليات الإجهاض الظالمة التي يجريها أطباء أقسموا اليمين الطبي المغلظ؟..
ماذا تقول في جيل كامل تدمره الأفلام والمسلسلات الهابطة، ويستهلك فكره وإبداعه الفن الرخيص؟..
ماذا تقول في آباء وأمهات يتركون أطفالهم للخادمة الغربية من هنا وهناك، من أجل أن يستمتعوا بأوقاتهم في حفلات اللهو والثرثرة والمتعة الزائفة؟..
أطفالنا اليوم يا دكتور يربيهم جهلة سريلانكا والفلبين..
ـ ماذا تقول في أم تحرم طفلها من حليب ثدييها الطبيعي خوفا على نهديها من الذبول؟.. إنهن يبعن الطفولة من أجل لحظة إغراء.. من أجل كلمة إطراء.. هذا هو البغاء الجديد الذي نمارسه اليوم بعد أن أصبح جمال الجسد عندنا قبل سلامة الروح

ماذا عن أطفال يربيهم آباء وأمهات لا يعرفون معنى التربية السليمة ولا طرائقها؟ لا يعرفون من التربية إلا القمح المرهق أو الدلال المفسد..يتبوءون مقاعد الأبوة والأمومة وهم لا يعرفون عن الزواج سوى أنه إطار المتعة الحلال ، ووسيلة للتناسل والإنجاب..
ووسائل إعلامنا غافلة عن هذه الأمراض المدمرة.. لا تكاد تجد فيها برنامجا أو حتى توجها لتثقيف الآباء ، أو تربية الأبناء

لكم ترهقني الحقائق!.. تجثم على صدري كالكابوس ، تنشب أظافرها في نفسي ، وكأني أنا الجاني الوحيد

ـ بعد أيام اكتشفوا الجاني ، كان واحدا من شباب الحي ، شاب عاطل عن العمل ، يقضي وقته متسكعا في الطرقات ، يتردد على دور السينما الهابطة ليأخذ جرعة عالية من الإثارة وحمى الجنس ، ثم يخرج منها كالكلب المسعور ليلاحق هذه ويعتدي على تلك

بين المحامي والصحفي يا صديقي شبه واضح، كلاهما يضطران أحيانا للدفاع عن الباطل من أجل لقمة العيش
كان المحامي ذكيا ، صفعني بكلماته ، ومضى ، وتركني فريسة للذهول!.. منذ ذلك التاريخ كسرت أقلامي وألقيتها في بحر اليأس والهزيمة ، امتنعت عن كتابة مقالي اليومي ، وحولت صحيفتي إلي صحيفة حوادث وقصص وتسليات ، صرت أنقل اخبار الفنانين وأسعى وراء النجوم ، خصصت صفحة للتعارف ، وأخرى للبحث عن النصف الآخر ، وثالثة للأبراج ، رابعة للأزياء وخامسة لآخر الصرعات.. وآلمني أن الناس أقبلوا على جريدتي بعد أن كانوا زاهدين فيها ، وارتفعت مبيعاتي من خمسة آلاف إلى خمسين ألفا..."

ـ أيؤلمك يا سيدي أن يقبل الناس على جريدتك؟
ابتسم الأستاذ سعيد في مرارة وقال:
ـ ما آلمني هو الحقيقة المرة التي تقف خلف هذا الإقبال ، فقد أكدت لي هذه التجربة أننا أمة هاربة ، ترهبها الحقائق ، وترهقها الصراحة ، نحن مجتمع لا يريد أن يواجه نفسه ، يخشى أن يرى وجهه في المرآة حتى لا تفجعه التشوهات الدميمة التي تتسع مساحتها فينا يوما بعد يوم ، نحن مجتمع يريد أن يبقى مخدرا نائما مغمض العيون ، مجتمع يخشى أن يسترد وعيه.. يخشى أن يصارحه المعالجون بأنه مصاب بالسرطان ، أنه بحاجة إلى جراحة عاجلة لاستئصال الأورام الخبيثة من جسده المريض

ـ ستتألم..
ـ الألم من علامات الحياة..
ـ ستتعذب..
ـ العذاب يزيدنا إحساسا بالواقع ، وتصميما على التغيير

شعرت بالإحراج أمام هاني وأحلام ، وكل الذين تعاطفوا معي ، وحاصرني شعور مزعج بأني إنسان مبالغ يضخم الاهتمام في الأمور الصغيرة فتكبر وتنمو وتتورم حتى تنفجر ، وتحدث حولها دويا مزعجا يلفت نحوه الأسماع
والأنظار

ـ يبدو لي أنا جميعا بحاجة إلى رثاء

ـ العمر يمضي يا دكتور، ولم يبق منه سوى القليل، وأنا أريد أن أودع الدنيا على صوت طفل يقول لي بابا... بابا ، ماما... أغنية جميلة تعطر البيوت الحزينة ، وترد إليها الروح .. أغنية عذبة حرمناها واشتقنا إليها
لقد قضينا أجمل سنيَّن العمر محرومين من رائحة الأطفال ، فحمدنا الله ، ورضينا بالمكتوب ، فلماذا تريد أن توقظ الجرح الآن وقد كاد أن يلتئم

الأنساب وحدها يا عم درويش لا تصنع الحب ، الحب هو الذي يصنع الأنساب

نعم نملك النوايا الطيبة، لكنا لا نعرف كيف نترجمها إلى عمل

ـ لطاقة الإنسان عتبة لا يملك أن يتجاوزها


ـ وأنا أيضا..
ـ تجهلين نفسك!
ـ بل أجهل عنك الكثير..
ـ عنيَّ أنا؟!
ـ أجل، من أنت؟
ـ يا له من سؤال

، أنا لست ضد عمل المرأة ضمن الشروط الاجتماعية المناسبة، لكني أعتقد أن البيت الذي لا تخلع عليه المرأة اهتمامها، بيت بلا روح.. بيت كالبيوت المهجورة التي تصفر فيها الريح، وتعيث فيها الأشباح

وعشت في هذه الدنيا كنباتات الصحراء، تراها قوية صامدة في وجه الظروف العاتية، لكنها جافة خاوية من داخلها، لا تكاد تجد فيها قطرة ماء

السعادة يا ابنتي لا تأتي من حولنا إنها تنبثق من داخلنا عندما تكون نفوسنا طاهرة نظيفة، النفوس النبيلة يا ابنتي كالجوهر المشع، دائما تتوهج بالسكينة والرضى والسلام
منذ ذلك اليوم وأصبح همي أن أكون نظيفة من الداخل، احتقرت المظاهر الفارغة والبذخ المجنون، استعليت على المادة بكل صورها وأشكالها
أما أنا فقد كرست حياتي للبحث عن السعادة التي لا تزول بزوال جمال البشرة وانهدام الوجه وترهل الجسد وفقدان الرشاقة...كرست حياتي للبحث عن الإنسان.. الإنسان الذي تخفق داخله المشاعر العليا، وتسمو اهتماماته عن حاجات الغريزة، وصرخات الأنا.. ترى هل أجد هذا الإنسان؟!..

No comments: